الافتتاحية

بحمد الله وتوفيقه يصدر العدد الأول من "المجلة العربية للمسؤولية المجتمعية"، التي تنشرها الشبكة الإقليمية للمسؤولية المجتمعية في العالم العربي، ومكتبها الإقليمي في مملكة البحرين، والمعهد العالمي لوحدة المسلمين بالجامعة الإسلامية العالمية في مملكة ماليزيا.

وهذه المجلة العلمية المحكمة تعدُّ رائدة في المنطقة العربية؛ إذ تتولَّى نَشْرَ البحوث العلمية في مجال المسؤولية المجتمعية باللغة العربية، وبخاصة في المرحلة الراهنة.والمسؤولية المجتمعية تمثل إطارًا أخلاقيًّا لما يقوم به الأفراد والمنظمات في سبيل تحقيق المنافع للناس، والتخفيف من التحديات التي تواجههم والبيئةَ التي يعيشون فيها.

وهناك مجالات أساسية لتلبية حاجات الإنسان، ولكن للحاجات مستويات من حيث الأهمية التي قد تختلف درجتها من بلد إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، ومن ظرف إلى آخر، وقد يكون للثقافة والفلسفة والرؤية الكونية مكانتها في تحديد تفاصيل تلك الحاجات الإنسانية التي تشمل تلبية الغايات أو حلَّ المشكلات التي يواجهها الإنسان في بيئته ومجتمعه.

إن للتصور عن الإنسان والكون والحياة دورًا مؤثرًا في تحديد الحاجات والإستراتيجيات ذات الأولوية من أجل التنمية الشاملة المستدامة في أي مجتمع من المجتمعات، وذلك على الرغم من حاجات مشتركة لبني البشر بصرف النظر عن الاختلاف في الثقافة واللغة والدين، وعلى الإنسانية أن تسعى سعيًا مشتركًا للعمل على رفاهية الإنسان، مع الأخذ بالحسبان الخصوصيات الثقافية والدينية، والضابط لكل ذلك هو منظومة القيم والأخلاق الإنسانية التي توجه عملية اتخاذ القرارات والسلوك البشري للأفراد والأسر والمنظمات والمجتمعات المختلفة في العالم.

فالأفراد والأسر والمنظمات والمجتمعات - بل الإنسانية جمعاء - معنيُّون جميعًا بهذا البُعد القيمي والأخلاقي من أجل تلبية الغايات وحلِّ المشكلات للبشرية في أيِّ زمان ومكان وظرفٍ.

ويُقترح أنموذج تكاملي لتحديد مجالات حاجات الإنسان في الغايات التي يلزم تلبيتُها أو المشكلات التي يلزم حلُّها في المجتمعات البشرية المختلفة، ووفق الأولوية والأهمية تنتظم تلك الحاجات الإنسانية في ثلاثة مستويات، فهي مُلِحَّة، ومُهِمَّة، وتكميلية، سواء أكانت للأفراد أو الأسر أو المنظمات أو المجتمعات، أم للبشرية جمعاء.

ويتألَّف الأنموذج من خمسة مجالات للحاجات الإنسانية؛ أما المجال الأول فالقيم والأخلاق الناظمة تفكير الناس ومشاعرهم وقراراتهم وأقوالهم وأفعالهم، وأما المجال الثاني فحاجات الإنسان الصحية النفسية والعقلية والجسمية وبيئته التي يعيش فيها، وأما المجال الثالث فحاجات تنمية المهارات العقلية واكتساب العلم والمعرفة المفضية إلى الإبداع والابتكار والمسهمة في تلبية غايات الإنسان المتصلة بالخدمات والمنتجات المختلفة، وأما المجال الرابع فحاجات الإنسان الاجتماعية وتشمل تكوين الأسرة الآمنة المستقرة التي هي أساس المجتمع، علاوة عن علاقة الأسرة بغيرها من المكونات المجتمعية، وأما المجال الخامس فحاجات التنمية الاقتصادية وإدارة الثروة، وهو مجال واسع في حياة الناس.

وجميع هذه الحاجات تشمل حاجات الأفراد والأسر والمجتمع والإنسانية بشكل عام، وفي جميع مستوياتها ينبغي للناس التخطيط للتنمية بحسب مستوياتها وأولوياتها التي تعكس حاجاتٌ مُلِحَّة جدًّا من دونها لا يستطيع الإنسان الاستمرار في الحياة، تلي ذلك الحاجاتُ الـمُهمَّة التي تخفِّف المعاناة نتيجة المشكلات التي يواجهها الإنسان، ثم الحاجاتُ التكميلية التي تسهم في إسعاد الإنسان وتحسين حياته وضمان رفاهيته، وهذا ما ينبغي لنا في منطقتنا العربية، أي أن نعتمد تخطيطًا تنمويًّا مستدامًا في ضوء تلك المستويات من أجل إسعاد مجتمعاتنا ورفاهيتها وازدهارها.

وفي أثناء التخطيط التنموي المجتمعي ينبغي لنا مراعاة نوعين من التدخلات البرامجية للتنمية؛ أحدهما تدخُّلات من أجل تلبية الأهداف التنموية التي نطمح في تحقيقها لمجتمعاتنا بعدل وإنصاف، والآخر تدخُّلات من أجل الحد من المشكلات التي تواجهها مجتمعاتنا وتحدُّ من رفاهيتها وسعادتها.

ويوضِّح الشكل الآتي مجالات الحاجات الإنسانية وأنواعها ومستوياتها لجميع مكونات المجتمعات الإنسانية بصرف النظر عن اللغة والثقافة والدين:

                                            

       الأنموذج التكاملي للحاجات الإنسانية

وإنَّا لفي حاجة مُلِحَّة للتناول العلمي والتشخيص الموضوعي لمدى تلبية الحاجات الإنسانية في مجتمعاتنا العربية، من أجل معرفة التدخلات التنموية ذات الأولوية بناء على نتائج الدراسات العلمية، فالتخطيط التنموي وتدخُّلاته السليمة تعتمد على التشخيص العلمي السليم الذي يوفر المعلومة الموضوعية، وعسى أن نسهم بإصدار هذه المجلة المتخصصة في تشجيع الباحثين العرب في العالم للمشاركة ببحوث علمية تصبح عاملاً محفزًا للمؤسسات العلمية والبحثية وصانعي القرار، في سبيل الاستفادة منها، وتوظيف نتائجها في عملية التنمية الشاملة المستدامة لمجتمعاتنا في الوطن العربي الكبير.

وفي هذه المناسبة؛ ندعو جميع الباحثين العرب لنشر بحوثهم وفق معايير النشر العلمي في مجلتهم المتخصصة في مجال المسؤولية المجتمعية، والله نسأل أن يوفقنا لخدمة أمتنا ومجتمعنا العربي الكبير.